حوض البحر الأبيض المتوسط, 1933

أسست الهدنة الفرنسية الألمانية، التي وُقعت في 22 يونيو 1940، منطقة واقعة تحت الاحتلال الألماني في شمال وغرب فرنسا ووضعت جنوب فرنسا تحت سيادة حكومة جديدة موالية لدول المحور مقرها مدينة فيشي. احتفظت حكومة فيشي التي تخضع لإدارة المارشال هنري فيليب بيتان بالسيطرة الإدارية على مستعمرات فرنسا في آسيا وإفريقيا، بما في ذلك مستعمرة الجزائر، والمغرب وتونس الخاضعتين للحماية الفرنسية. فقد طبق نظام فيشي قوانين عنصرية في الأراضي الواقعة شمال إفريقيا في أكتوبر 1940. طُبقت هذه القوانين بطرق شتى في شمال إفريقيا، حيث تماهى قانون فيشي مع القانون الاستعماري السابق والواقع الذي يفرضه زمن الحرب.

وعلى الرغم من أن الجزائر قد ضُمت إلى فرنسا منذ 1848، إلا أن الدولة منحت الجنسية الفرنسية لعدد قليل من البربر الجزائريين أو العرب المسلمين؛ لذلك أصبحت غالبية مسلمي الجزائر رعايا فرنسيين بصفتهم "سكان أصليين تابعين لفرنسا" وليسوا مواطنين فرنسيين. وخلال الحقبة الاستعمارية، وُضع اليهود الجزائريون في فئة قانونية أخرى، حيث منح مرسوم كريميو الصادر عام 1870 الجنسية لمعظم اليهود في الجزائر، باستثناء الفئة السكانية الصغيرة من اليهود في المقاطعات العسكرية بالصحراء الكبرى. وعلى النقيض من ذلك، مارست فرنسا حكمًا غير مباشر على محمياتها في تونس والمغرب. وفي هذه الحالات، مارست الدولة الفرنسية سلطتها من خلال الجنرالات المقيمين، سامحة للملوك المحليين بتولي سلطة اسمية.

في 3 أكتوبر 1940، سُن القانون الأول المناهض لليهود (Le Statut des Juifs) في فرنسا. وعلى غرار قوانين نورمبرج، قدم هذا القانون (Le Statut des Juifs) تعريفًا عرقيًّا لليهود الذين يعيشون في فرنسا العاصمة وفي الجزائر. بعد أربعة أيام، تم إلغاء مرسوم كريميو بمبادرة من نظام فيشي، وجُرد اليهود الجزائريون من جنسيتهم.

في عام 1941، أُنشأت المفوضية العامة للشؤون اليهودية (Commissariat Général aux Questions Juives، أو CGQJ) تحت قيادة كزافيه فالات. كلف نظام فيشي هذه المفوضية بالإشراف على تطبيق السياسات المناهضة لليهود في فرنسا وباستحداث وتنفيذ تشريعات لتعزيز أهداف هذه السياسة. حل التشريع الجديد الصادر من قبل هذا الكيان، Le Statut des Juifs لعام 1941، محل القانون القديم.

 وأصبح محظورًا على اليهود في فرنسا، بما في ذلك الجزائر، العمل في المناصب العامة. طُرد الموظفون اليهود من الجيش (باستثناء عدد محدود من قدامى المحاربين) ومن الإدارة الحكومية والخدمة المدنية ومهنة التدريس (مع ذلك، سُمح لهم بالاستمرار في التدريس في المدارس اليهودية). مُنع اليهود من النساء والرجال أيضًا من العمل في وسائل الإعلام. فُرضت حصة نسبية تعرف باسم العدد المغلق على اليهود من الأطباء والمعماريين والمحامين وكتاب العدل لتقليص عدد اليهود في كل مهنة على اثنين بالمائة من العدد الكلي. فُرِضتْ سياسة الأعداد المغلقة على اليهود والتي منعتهم من الانخراط في الأعمال المالية أو تمديد الائتمان، مما أدى بدوره إلى منع العديد من امتلاك أعمال تجارية. بالإضافة إلى ذلك، وضع نظام فيشي حدًا أقصى لنسبة الطلاب اليهود الفرنسيين (بما في ذلك أولئك المقيمين في الجزائر) لتكون أربعة عشر بالمائة، ومنعوا في نهاية المطاف من الحصول على التعليم الحكومي برمته. كما طبقت المفوضية العامة للشؤون اليهودية هذه القوانين بشكل صارم في الجزائر، مما أثر سلبًا على العديد من الأسر التي كانت قد اندمجت في الثقافة والمجتمع بالجزائر الفرنسية.

الجاليات اليهودية في شمال إفريقيا

بعد تطبيق سياسة العدد المغلق، شرعت سلطات فيشي في "السيطرة على الممتلكات اليهودية" من خلال مكتب الاستيطان الاقتصادي. وفي يوليو 1941، سمح تشريع جديد بمصادرة الممتلكات اليهودية. كما خصّصَ مكتب الاستيطان الاقتصادي الأعمال التجارية اليهودية في الجزائر "لأوصياء" من غير اليهود، وسُمح للملاك الجدد بإدارة الأعمال التجارية المسندة إليهم الاستفادة منها، وكذلك بيعها. ومع تطبيق هذه القوانين وغيرها من القرارات المعادية للسامية، هُمِّشَ اليهود الجزائريون في المجتمع الاستعماري الفرنسي.

ردت الجالية اليهودية في الجزائر على هذه التطورات بمرونة، وزودت الأسر اليهودية الجزائرية بالموارد الاقتصادية والطبية والتعليمية، لكن التضييق عليهم ظل مستمرًا. وفي 31 مارس 1942، أنشأت سلطات فيشي هيئة حكم مشتركة تعرف باسم الاتحاد العام ليهود الجزائر (Union Générale des Israélites d’Algérie). كان الهدف من هذه الهيئة، شأنها شان المجالس اليهودية في أوروبا الواقعة تحت الاحتلال الألماني، العمل كهمزة وصل بين سلطات فيشي والجاليات اليهودية، مما يحد بشكل جذري من الحكم الذاتي الطائفي.

أخذت التشريعات المناهضة لليهود شكلًا مختلفًا في كل من المغرب وتونس، من خلال التفاعل مع قانون الاستعمار وقانون المحمية القائمين مسبقًا. اُعتبر اليهود في المحميتين رعايا مغاربة وتونسيين تابعين للسلطان والبك، على التوالي، باستثناء أقلية حصلت على الجنسية الفرنسية أو الإيطالية؛ وكانوا خاضعين أيضًا للسلطة القانونية للبكو المخزن. وبموجب الحكم الفيشي، سمح قانون Statut des Juifs لعام 1940 لليهود في المغرب وتونس بالاحتفاظ بوضعهم كمجموعة دينية ولم يعتبرهم، من الناحية القانونية، أفرادًا من عرق دوني. ونتيجة لذلك، تمكن اليهود في المحميتين من الاحتفاظ بوضعهم الاجتماعي والاقتصادي في هذه المرحلة من الحكم الفيشي، بالرغم من تطبيق سياسة العدد المغلق عليهم. وفي ظل قانون Statut des Juifs لعام 1941، تم تطبيق تعريف عنصري على اليهود المغاربة والتونسيين، مما قيّد وضعهم القانوني بشكل أكبر.

في المغرب، أشرف على تطبيق قوانين فيشي العنصرية المقيم العام الجنرال نوغيس، وبموافقة السلطان سيدي محمد بن يوسف (محمد الخامس). وهنا بدأ التحضير للأرينة (تفضيل العرق الآري) بإجراء إحصاء لحصر تعداد الأشخاص والمهن والممتلكات. مع ذلك، استخدمت الحكومة المغربية تكتيكات متنوعة لتأخير تنفيذ الأرينة، حتى وإن كان اليهود المغاربة خاضعين لقيود وحصص اقتصادية وتعليمية وإدارية. كما طالبت التشريعات المناهضة لليهود بخروج اليهود المغاربة من الأحياء الأوروبية (المدينة الجديدة-ville nouvelle)، وهي الأحياء التي انتقل إليها اليهود بأعداد كبيرة منذ أواخر القرن التاسع عشر، إلى أحياء اليهود الفقيرة المعروفة باسم الملاحات. طُبِّقَ هذا القانون بشكل انتقائي، وكانت فاس هي الأكثر تضررًا. وفي هذا السياق، كان الملاح المكتظ بسكانه بمثابة أرض خصبة للتيفويد والأمراض الأخرى، مما سبب ارتفاعًا حادًا في معدلات وفيات اليهود.

طُبقت بعض التشريعات المناهضة لليهود (مثل منع اليهود من مزاولة بعض المهن، وتطبيق سياسة العدد المغلق) التي اعتمدها نظام فيشي في جميع أنحاء مدن وبلدات المغرب. ومع ذلك، لم يكن لهذه التشريعات تأثيرًا كبيرًا على أعداد كبيرة من اليهود الفقراء الذين عاشوا في المغرب. وفي المناطق النائية وأطراف الريف المغربي، نادرًا ما كانت تصدر تعليمات لزعماء القبائل بإنفاذ قانون فيشي. بالإضافة إلى ذلك، اتخذ السلطان سيدي محمد بن يوسف موقفًا إيجابيًّا لرعاياه من اليهود. فعلى الرغم من أن قوانين فيشي كانت تحمل ختم الشريف (السلطان)، كثيرًا ما كان السلطان يتدخل لإظهار دعمه للجالية اليهودية وقيادتها. وفي حالات أخرى، على سبيل المثال، عندما اشتكت قيادة الجالية اليهودية من حصص الغذائية ونقص الزيت والسكر، اتصل السلطان بالقادة المحليين (زعماء القبائل) لزيادة الحصص، خاصة في أثناء الأعياد الدينية.

وبالنسبة لمجال التعليم، لم يعان اليهود في المغرب وتونس من مرارة قانون فيشي المعادي للسامية بالشدة نفسها التي عانى منها اليهود في الجزائر. ويرجع ذلك إلى أن غالبية الطلاب اليهود في المحميتين قد التحقوا بمدارس الاتحاد الإسرائيلي العالمي(Alliance Israélite Universelle)، ولذلك كانوا خارج نطاق القيود المفروضة. فضلًا عن ذلك، قلل الاندماج المحدود لليهود في المغرب وتونس -على الأقل بالنسبة للجزائر- من تأثير سياسة العدد المغلق، وكانت المهن الطبية والقانونية هي الأكثر تأثرًا.

وهناك عامل آخر أضعف من فعالية تشريعات فيشي في تونس وهو تعطيل القيادة المحلية، التي تشمل المقيم العام الأدميرال جان بيير إستيفا وأحمد باشا ومنصف بك، عمدًا التشريعات المناهضة لليهود رغم التأثير المحدود للسلطة المقيدة من قبل سلطات الحماية التي كان يتمتع بها البكوات.

القوات الألمانية, خلال حملة شمال إفريقيا, تحت قيادة النائب الجينيرال (مدير الشرطة من بعد ذلك) أرفين رومل.

كان غزو الحلفاء في 8 نوفمبر 1942 (عملية الشعلة) والاجتياح الألماني الإيطالي اللاحق لتونس بمثابة نقطة تحول في الحرب في شمال إفريقيا، وكان لهما آثار لا حصر لها على اليهود المحليين. فبمجرد تولي القيادة الألمانية الحكم في تونس، طبّقتْ سياسات عنصرية ومعادية للسامية على اليهود التونسيين. أجبرت السياسات النازية حينها اليهود على ارتداء النجمة الصفراء، وأمرت بمصادرة ممتلكات اليهود، وجندت الرجال اليهود في العمل الإجباري، ورحلت اليهود من الرجال والنساء إلى معسكرات العمل والاحتجاز في شمال إفريقيا. وأُرسل عدد قليل منهم إلى معسكرات في بولندا المحتلة. وتم ترحيل أعداد إضافية غير معروفة من اليهود التونسيين والمغاربة والجزائريين المقيمين ضمن حدود فرنسا القارية إلى معسكرات الموت أيضًا.

عارضت السلطات الإيطالية تطبيق القوانين العنصرية على اليهود التونسيين الحاملين للجنسية الإيطالية. ومع ذلك، في عام 1942 رحّلتِ القيادةُ الإيطاليةُ اليهودَ الحاملين لجوازات سفر بريطانية من ليبيا. وبعد اعتقال هؤلاء اليهود من النساء والرجال في معسكرات الاعتقال في إيطاليا تم ترحيلهم لاحقًا إلى معسكر بيرغن-بيلسن بعد احتلال ألمانيا لإيطاليا. ظل المعتقلون في معسكر بيرغن بيلسن لمدة 6 أشهر قبل تحريرهم من قبل قوات الحلفاء.

وفي شمال أفريقيا، تعرض اليهود للتشريعات المعادية للسامية الصادرة عن نظام فيشي بطرق شتى، بناءً على حالتهم القانونية قبل الحرب، ومدى تطبيعهم الثقافي قبل الحرب، وإذا ما كانوا يعيشون في مناطق حضرية أو ريفية، وتوقيت الحرب، من بين عوامل أخرى. وعلى الرغم من أن الهدف من قانون فيشي كان التأثير على جميع اليهود في المنطقة، في واقع الأمر، كانت آثاره متباينة، حيث ساهم في تشكليها التاريخ الاستعماري إلى جانب الواقع الذي فرضته الحرب وحكم سلطات الحماية.