التركيبة السكانية

عاش اليهود الأصليون على مدى عدة قرون قبل الحرب العالمية الثانية في أحياء عرقية مميزة أو مساحات طائفية خاصة ولكن منفتحة على أحياء المسلمين في كل من الأقاليم الريفية والحضرية في شمال إفريقيا. وباتت هذه المناطق تُسمى بالملاح في المغرب وأجزاء من غرب الجزائر، وبالحارة في باقي أنحاء الجزائر وفي تونس وإقليم طرابلس في الشمال الغربي من ليبيا. عاش المسلمون واليهود جنبًا إلى جنب في المجتمعات التي تسودها أغلبية من العرب والبربر في الأقاليم الريفية والجبلية بشمال إفريقيا.

استقرت جماعات صغيرة من الإيطاليين والفرنسيين وغيرهم من يهود أوروبا في المغرب، والجزائر، وتونس، وليبيا. حصل العديد من اليهود الأصليين في ذلك الوقت على جنسية أجنبية، إما عن طريق عمليات التجنيس الجماعية بواسطة إحدى القوى الاستعمارية (في حالة اليهود الجزائريين) وإما من خلال طلب حماية دولة أجنبية. وأدت الهجرة عبر الأقاليم إلى إضفاء المزيد من الفوارق الدقيقة على المشهد الثقافي والقانوني.

عشية الحرب العالمية الثانية، كان المشهد اليهودي في شمال إفريقيا أكثر تنوعًا نظرًا لوصول أعداد كبيرة من اللاجئين اليهود من أوروبا.

الجاليات اليهودية في شمال إفريقيا

اللغة والثقافة

من الناحية التاريخية، تحدث يهود شمال إفريقيا عددًا من اللغات بما في ذلك اللغة العربية والبربرية، مثلهم في ذلك مثل مسلمي المنطقة. في معظم أنحاء المغرب العربي، كانت اللغة العربية هي اللغة الرئيسية التي يتحدثها اليهود في أغلب المناطق، وفي الحالات التي سادت فيها لهجات البربر، كانت ثنائية اللغة أمرًا شائعًا بين الأسر اليهودية، بالرغم من تحدثهم اللغة العربية عادةً في المنزل. وهناك دليل أيضًا على وجود القليل من الجاليات اليهودية التي تحدثت لغة بربرية واحدة.

في شمال المغرب، كان هناك شكل فريد من الإسبانية اليهودية المعروفة بالحاكيتيا موجودًا بجانب العربية ولكن حلت الإسبانية القياسية محلها بصورة متزايدة في مطلع القرن العشرين. وفي تلك الأثناء، اكتسبت لغات أوروبية أخرى، خاصةً الفرنسية، أهمية بارزة على نحو جديد بين يهود شمال إفريقيا، حيث لجأت الأسر اليهودية إلى اللغات كأدوات للتعليم والترقي الاجتماعي. وبالإضافة إلى ذلك، فقد أدى استحداث الصحافة المطبوعة ورواجها إلى ازدهار الحروف العبرية الحديثة بين يهود شمال إفريقيا.

حتى عندما تعرض يهود شمال إفريقيا بشكل عام للتطبع الثقافي داخل الأوساط الثقافية الأوروبية، حافظت نسبة كبيرة من المجتمع اليهودي على العربية والبربرية كلغة يومية. واستُخدمت أيضًا العربية-اليهودية وفي بعض الأحيان اليهودية-البربرية في الكتابات الدينية والتجارية. على سبيل المثال، في المغرب وأجزاء كبيرة من تونس وليبيا، ظلت العربية هي اللغة السائدة.

شهد يهود الجزائر تحولات لغوية وثقافية أكثر دراماتيكية؛ حيث تبنى العديد منهم استخدام اللغة الفرنسية في ظل عقود من حكم الاستعمار الفرنسي (1830-1962): بحسب المنطقة التي عاشوا فيها. فكانت احتمالية أن يتحدث يهود قسنطينة، في شرق الجزائر، اللغة العربية أكبر بكثير مقارنةً باليهود في مدينة الجزائر ووهران—وقد تباين هذا النمط مع الطبقة الاجتماعية. وكانت قسنطينة أيضًا واحدة من مناطق عديدة عمل فيها اليهود، جنبًا إلى جنب مع المسلمين، على تأليف وأداء الأعمال الموسيقية باللغة العربية، سواء بأشكالها الكلاسيكية العربية الأندلسية التي ترجع أصولها إلى العصر الأندلسي، أو أشكالها الجديدة المعاصرة.

وبينما حافظ اليهود على الثقافة واللغة العربيتين، أسهمت تغيرات ثقافية أخرى بشكل ملحوظ في تحول اليهود عن الأعراف الثقافية التقليدية واتجاههم نحو أخرى جديدة هجينة. إن الانتقال إلى الأحياء الأوروبية من المدن واستهلاك الملابس الجاهزة جعلا يهود شمال إفريقيا (مثل جيرانهم من المسلمين) بمثابة مشاركين في التحولات الثقافية العميقة التي أعادت تشكيل المغرب العربي في القرن العشرين.

الجانب القانوني

عاش اليهود في شمال إفريقيا في ظل أنظمة قانونية مختلفة خلال العقود التي سبقت الحرب العالمية الثانية، واستمرت هذه الاختلافات - المتأصلة في التاريخ الاستعماري - تحت حكم الأنظمة الفاشية الفيشية والنازية والإيطالية التي احتلت المنطقة في أثناء الحرب.

وعلى الرغم من أن الجزائر قد ضُمت إلى فرنسا منذ 1848، فإن الدولة منحت الجنسية الفرنسية لعدد قليل من البربر الجزائريين أو العرب المسلمين؛ لذلك أصبحت غالبية مسلمي الجزائر رعايا فرنسيين بصفتهم "سكان أصليين تابعين لفرنسا" وليسوا مواطنين فرنسيين. وخلال الحقبة الاستعمارية، وُضع اليهود الجزائريون في فئة قانونية أخرى، حيث منح مرسوم كريميو الصادر عام 1870 الجنسية لمعظم اليهود في الجزائر، باستثناء الفئة السكانية الصغيرة من اليهود في المقاطعات العسكرية بالصحراء الكبرى. في المغرب وتونس، الخاضعتين لحماية فرنسا، اُعتبر اليهود من رعايا السلطان والبك(على التوالي)، باستثناء أقلية حصلت على الجنسية الفرنسية أو الإيطالية؛ وكان هؤلاء السكان أيضًا خاضعين للسلطة القانونية للبكو المخزن (الحكومة المركزية).

وقد استُخدمت هذه الأوضاع القانونية المتفاوتة المُطبقة على اليهود في مساعٍ أخرى في ظل الأنظمة التي حكمت شمال إفريقيا في أثناء الحرب العالمية الثانية. فعلى سبيل المثال، في أكتوبر 1940، ألغى النظام الفيشي مرسوم كريميو، مُعيدًا اليهود في الجزائر إلى حالة الانتماء القانوني للسكان الأصليين. ومع تطبيق القوانين المناهضة للعرق اليهودي، كان هذا الوضع القانوني يعني احتلال يهود الجزائر منزلة دنيا مقارنة بالمسلمين لأول مرة منذ سبعين عامًا.

وأخيرًا، حملت نسبة صغيرة ولكن قوية من السيدات والرجال والأطفال اليهود في شمال إفريقيا جوازات سفر دول أوروبية، الأمر الذي كان يرجع في بعض الحالات إلى عملهم لدى قناصل هذه الدول. وقد أتاح هذا الوضع القانوني لليهود فرصًا في ظل الاستعمار: ولكن، تحت الحكم الفاشي الفيشي والنازي والإيطالي، كان من الممكن أيضًا إثبات مسؤولية قانونية تُعرّض الفرد إلى الترحيل المحتمل من شمال إفريقيا أو فرنسا إلى معسكرات الموت في أوروبا الشرقية المحتلة.

المشاعر المعادية لليهود وردود الفعل اليهودية

كانت الجزائر الفرنسية في القرن التاسع عشر أرضًا خصبة بشكل خاص لمعاداة السامية، ومن هنا انتشرت الحركة إلى أجزاء أخرى من شمال إفريقيا. مباشرةً بعد صدور مرسوم كريميو عام 1870، انتشرت الأعمال الأدبية المعادية للسامية باللغة الفرنسية وتدفق العنف الممارس بواسطة الأوروبيين ضد اليهود الجزائريين. وفي مطلع القرن العشرين، اُنتخب ماكس ريجيس (المولود باسم ماسيميليانو ريجيس ميلانو) وإدوارد درومونت لشغل مناصب محلية وقومية من على منابر معادية للسامية بشكل صريح. في الواقع، عملت الجزائر في أغلب الأحيان على إنماء معاداة السامية في فرنسا العاصمة، بدلًا من حدوث العكس.

بشكل عام، كانت أحداث العنف ضد اليهود على يد المسلمين نادرة نسبيًا في أوائل القرن العشرين بشمال إفريقيا. ففي أغلب الأحيان، كان العنف ومعاداة السامية ينبعان من فئة المستوطنين الاستعماريين كل من الكاثوليك الأوروبيين أو كانا يتدفقان منهم إلى المجتمعات المحلية المسلمة، مثلما حدث في أعمال الشغب في قسنطينة عام 1934.

خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، عاودت الرابطات السياسية المعادية للسامية الظهور للاحتجاج على ما اعتبروه استغلالًا للجزائر بواسطة اليهود الجزائريين. وأطلقت صحف مثل La Croix de Feu وLe Front Paysan وUnions Latines حملات لتحميل اليهود مسؤولية الاضطرابات الاقتصادية في تلك الحقبة. وأدت هذه المشاعر إلى اندلاع أعمال عنف بين المسيحيين واليهود (وبين المسلمين واليهود أيضًا) في الجزائر. ففي مدينة قسنطينة وحدها، يمكن حصر وقوع 59 حادثة من هذا النوع بين عامي 1929 و1934.

تضمنت ردود فعل اليهود على هذا العنف تأسيس Le Comité d’Union Sémite Universelle، وهي منظمة مقرها مدينة الجزائر ومدن جزائرية أخرى، تهدف إلى مجابهة الدعاية المعادية للسامية والدعوة إلى الإدارة المشتركة لليهود والمسلمين لفلسطين. وعلى غرار أهداف منظمة Le Comité d’Union Sémite Universelle، كتب محمد الخولتي، وهو زعيم قومي مغربي وسطي، عمودًا عام 1933 يدعو إلى الوفاق بين المسلمين واليهود.

استجابة لهذه التحركات والتغيرات الأخرى التي أعادت تشكيل شمال إفريقيا والعالم، وجد يهود المنطقة أنفسهم مجتذبين إلى الحركات السياسية المتنافسة في العقود التي سبقت الحرب العالمية الثانية. أيَّد اليهود من الشباب، وكذلك السيدات والرجال المهمة الحضارية الفرنسية، بالإضافة إلى القومية المناهضة للاستعمار والصهيونية والشيوعية. وفي بعض الحالات، تبنوا أفكار عدة حركات، بالرغم من التناقضات الأيديولوجية الظاهرة بينها.

الجانبان الديني والروحاني

على المستوى الديني أيضًا، كان هناك نطاق واسع من الممارسات والهويات بين يهود شمال إفريقيا، حتى مع استمرار العديد من الأسر اليهودية في الالتزام بالشريعة والطقوس اليهودية في ممارساتهم اليومية. وعلى النقيض من ذلك، شهدت الجزائر نوعًا من النمو في العلمانية حيث اندمج اليهود في الثقافة الفرنسية واتخذوا أزواجًا وزوجات يدينون بالمسيحية.

تركزت المعرفة الدينية في سلالات أسرية معينة في شمال إفريقيا (وفي أماكن أخرى من العالم اليهودي)، ووُرِّثت من جيل إلى آخر. وبينما كانت القبالة مُدمجة في الأعمال الحاخامية والفكر الديني للدارسين، كانت أيضًا جزءًا من ممارسات اليهود الشائعة.

بالإضافة إلى ذلك، اتبع العديد من يهود شمال إفريقيا طقوسًا تنفرد بها المنطقة، وتشاركوا بعضًا من هذه الطقوس مع جيرانهم المسلمين. على سبيل المثال، في جميع أنحاء شمال إفريقيا، قام اليهود ـ وما زالوا يقومون ـ بالحج (الزيارة) إلى مقابر الأولياء (تساديكيم أو قدوشيم) في ذكرى وفاة الولي. وهذا الاحتفال اليهودي، المعروف باسم هيلولا، مستمد من الاعتقاد القبالي بأن روح القديسين الصالحين تتحد مع الإله عند وفاتهم.

وإجمالًا، فقد شكل يهود شمال إفريقيا مجتمعًا متنوعًا للغاية عشية الحرب العالمية الثانية: ويمكننا القول بأنه كان متنوعًا بقدر تنوع اليهود في أوروبا.