قبل وقوع الهولوكوست، استمرت معاناة اليهود الأوروبيين طيلة قرون عديدة لما لاقوه من معاداة السامية. حيث فرضت الحكومات والكنائس في جميع أنحاء أوروبا حملات من القيود على اليهود. على سبيل المثال، منعوا اليهود من امتلاك الأراضي وفرضوا قيودًا على الأماكن التي يمكنهم العيش فيها والوظائف التي يمكنهم شغلها. وفي بعض الأحيان، أُجبر اليهود على ارتداء علامات مميزة لجعلهم منبوذين اجتماعيًا.

دفع هذا التاريخ الطويل من الإقصاء والاضطهاد العديد من اليهود إلى استنتاج أن المستقبل الوحيد للحياة المجتمعية اليهودية يتمثل في إنشاء وطن في أرض إسرائيل. وفي أواخر القرن التاسع عشر، تأسست حركة سياسية يهودية جديدة تُسمى الصهيونية للدفاع عن تحقيق هذا الهدف. وذاع صيت الحركة الصهيونية بشكل مطّرد في أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى حيث أدى ظهور حركات وسياسات جديدة معادية لليهود إلى ازدياد حدّة الاضطهاد.

خلال الهولوكوست، قتل النازيون وحلفاؤهم والمتعاونون معهم ستة ملايين يهودي من الرجال والنساء والأطفال. لقد دمروا قرونًا من الحياة اليهودية في أوروبا وآلاف المجتمعات اليهودية.

في أعقاب هذه الإبادة الجماعية، بات واضحًا للعديد من الناجين من الهولوكوست وغيرهم من اليهود أن اليهود بحاجة ملحة إلى بلد يجمع شتاتهم حيث يتمكنون من العيش بأمان واستقلال. وازداد دعم الصهيونية بين الناجين من الهولوكوست والقادة الدوليين وغيرهم. عندما أُقيمت دولة إسرائيل في مايو 1948، رحّب بها العديد من الناجين من الهولوكوست باعتبارها وطنًا لن يكونوا فيه أقلية مستضعفة.

ردود الفعل اليهودية على معاداة السامية في العقود التي سبقت الهولوكوست

طوال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، تطورت أنواع جديدة من معاداة السامية في جميع أنحاء أوروبا. في هذه الفترة، اقترنت التحيزات القديمة حول اليهود بين المسيحيين بأشكال الكراهية العرقية والقومية والإثنية الجديدة. وفي العديد من البلدان، استخدم المعادون للسامية الصحافة العامة لنشر نظريات المؤامرة المعادية للسامية وغيرها من الأكاذيب عن اليهود. فقد أججوا حدة نيران الكراهية واستغلوا مخاوف الناس وتحيزاتهم. ونظمت الحركات السياسية الجديدة حملات على منصات معادية لليهود بشكل صريح. حيث عمدت معظم الحركات القومية الأوروبية إلى إظهار اليهود بأنهم غرباء وممقوتين. وفي الإمبراطورية الروسية، استهدفت عدة حملات من أعمال الشغب العنيفة والمميتة (المذابح) المجتمعات اليهودية.

في جميع أنحاء أوروبا، بذل اليهود قصارى جهدهم للوصول إلى أفضل السبل للتعامل مع معاداة السامية وذلك مع الحفاظ أيضًا على حياة مجتمعية يهودية نابضة بالحياة. فقد شارك اليهود في مناقشات حادة حول كيفية تحقيق التوازن بين التقاليد الدينية اليهودية والحياة الحديثة. حيث ناقشوا ما إذا كان يجب على اليهود الاندماج أو مواكبة العصر وكيفية تحقيق ذلك. وأجروا مناقشات بشأن اللغة التي يجب أن يتحدث بها اليهود كعلامة على الهوية. وفي ضوء انتشار الفقر والتهديدات العنيفة في أوروبا، زعم البعض بأن الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية أو أماكن أخرى هي الخيار الأفضل.

في هذه الظروف تأسست الصهيونية الحديثة. دعت هذه الحركة السياسية إلى إقامة دولة يهودية مستقلة في إسرائيل. اسم "صهيون" مشتق من الكتاب المقدس العبري كاسم لإسرائيل. أُقيمت الصهيونية الحديثة على قرون من التاريخ اليهودي في أرض إسرائيل، حيث عاش اليهود بشكل متواصل لأكثر من 4000 عام. لطالما كانت أرض إسرائيل محورًا رئيسيًا لليهودية والكتاب المقدس العبري.

بالتالي، فقد كانت الصهيونية حركة قديمة وحديثة على حد سواء. وُلدت هذه الحركة من الروابط الدينية والتاريخية القديمة بين اليهود وأرض إسرائيل. إلا أن الصهيونية كانت أيضًا حركة سياسية حديثة. كانت هذه الحركة ردًا على ازدياد المشاعر المعاداة للسامية. استُلهمت هذه الحركة جزئيًا من الأفكار والمفاهيم السائدة في أواخر القرن التاسع عشر في أوروبا، بالإضافة إلى النزعة القومية القائمة على الانتماء العرقي.

تيودور هرتزل والمؤتمر الصهيوني الأول

أسس تيودور هرتزل الحركة الصهيونية الحديثة في أواخر القرن التاسع عشر.

كان هرتزل محاميًا وصحفيًا يهوديًا من الإمبراطورية النمساوية المجرية. لقد عانى من معاداة السامية المنتشرة في أوروبا. ألهمته هذه المعاناة بتأسيس الحركة الصهيونية. غطى هرتزل، بصفته مراسلًا أجنبيًا لإحدى الصحف الفيينية الرائدة، قضية دريفوس المعادية للسامية في باريس عام 1894. كان ألفريد دريفوس ضابطًا عسكريًا يهوديًا فرنسيًا. وقد كان ألفريد دريفوس هدفًا للتحيز ضد اليهود وأُدين بتهمة الخيانة ظلمًا. أدت هذه المحاكمة دورًا مهمًا في الأكاذيب التي صوّرت اليهود بأنهم دخلاء يخططون لمكائد. في عام 1897، رأى هرتزل أيضًا السياسي البارز المعهود بصراحته والمعادي للسامية كارل لويجر يتولى منصب عمدة فيينا.

احتج هرتزل قائلًا بأن اليهود يجب أن يشكّلوا دولة مستقلة وتتمتع بالحكم الذاتي. وكان يعتقد أن اليهود يجب أن يعودوا إلى أرض أجدادهم، دولة إسرائيل، بدلًا من البقاء أقلية مستضعفة في أوروبا.

في عام 1897، عقد هرتزل المؤتمر الصهيوني الأول. خلال هذا الاجتماع، تعهّد المشاركون "بتأمين وطن معترف به رسميًا ومضمون قانونيًا يضم الشعب اليهودي" في أرض إسرائيل. كانت هذه المنطقة، في ذلك الوقت، جزءًا من الإمبراطورية العثمانية. وعادةً ما يُشار إليها باللغة الإنجليزية باسم "Palestine" (فلسطين)، وهي ترجمة إنجليزية من اسم المنطقة التي يعود تاريخها إلى العصور القديمة والبيزنطية.(1) كان هرتزل وآخرون يحدوهم الأمل في كسب الدعم للصهيونية من القادة الدوليين، بما في ذلك السلطات العثمانية.

وقد أصبح مئات الآلاف من اليهود في جميع أنحاء أوروبا وخارجها أعضاء نشطين في حركة الصهيونية وكان لديهم رغبة شديدة في الاستعداد للحياة في إسرائيل. ودعت الحركة الصهيونية إلى أن يتحدث اليهود اللغة العبرية في حياتهم اليومية. وأنشأت الجماعات الصهيونية مدارس وصحفًا باللغة العبرية. أصبحت مجموعات الشباب الصهيونية والمنظمات الرياضية شائعة في جميع أنحاء أوروبا. شجّعت الحركة الصهيونية اليهود على التدريب كعمال زراعيين وتعلّم المهارات التي ستعود بالنفع والفائدة في وطنهم المستقبلي.

 إنشاء فلسطين الانتدابية بعد الحرب العالمية الأولى

غيّرت الحرب العالمية الأولى (1914-1918) خريطة أوروبا والشرق الأوسط وما وراءهما تغييرًا جذريًا. شاركت الإمبراطورية العثمانية في الحرب كجزء من القوى المركزية. حيث حاربت بجانب ألمانيا وبلغاريا والنمسا والمجر. حاربت القوى المركزية ضد بريطانيا العظمى وفرنسا والإمبراطورية الروسية ودول أخرى.

كان مستقبل الإمبراطورية العثمانية وأراضيها محل نقاش خلال الحرب. حيث كان واضحًا للعديد من المراقبين الدوليين أن الإمبراطورية العثمانية كانت في انحدار. كان من الواضح أيضًا أن العديد من الدول والجماعات كان يحدوها الأمل في السيطرة على الأراضي العثمانية في الشرق الأوسط. أبرمت الحكومة البريطانية والقوى الأخرى عددًا من الاتفاقيات والإعلانات المتعلقة بالوضع المستقبلي للأراضي العثمانية. وكان من بينها وعد بلفور. كان هذا بيانًا صادرًا عن بريطانيا في عام 1917. حيث أيّد وعد بلفور إقامة "وطن قومي للشعب اليهودي" في الأراضي المُشار إليها في الوثيقة باسم "فلسطين".

أسفرت الحرب العالمية الأولى عن انهيار الإمبراطورية العثمانية. ونتيجة لذلك، أُنشئ انتدابين من عصبة الأمم لحكم الأراضي العثمانية السابقة والسيطرة عليها في الشرق الأوسط. وكان هذان الانتدابان هما "الانتداب على سوريا ولبنان" و"الانتداب على فلسطين". تلقت بريطانيا العظمى السيطرة الإدارية على ما كان يُسمى الآن فلسطين الانتدابية.(2) نصت اتفاقية الانتداب على أن السلطات البريطانية كانت تتحمّل المسؤولة عن تنفيذ تعهدات وعد بلفور. كان للإقليم ثلاث لغات رسمية: الإنجليزية والعربية والعبرية.

التريب للهجرة إلى فلسطين: حصة رياضيات في المدرسة الفلاحية كابوث.

في الأعوام التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، وجدت العديد من الأحزاب السياسية في جميع أنحاء أوروبا أن رسائل الكراهية المعادية لليهود كانت تحظى بقبول واسع النطاق لدى الناخبين. أعلنت الحركات السياسية الجديدة (بالإضافة إلى النازية الألمانية) صراحةً عن أهداف معادية للسامية وتبنت برامج حزبية معادية للسامية. وفي الوقت نفسه، استمرت الحركة الصهيونية في النمو والعمل نحو هدفها المتمثل في إقامة دولة يهودية مستقلة في أرض إسرائيل. ومع ذلك، عمدت السلطات البريطانية إلى الحد من الهجرة اليهودية إلى فلسطين الانتدابية. نفّذت السلطات البريطانية هذا الأمر جزئيًا للتخفيف من حدة العنف والاضطرابات من جانب العرب واليهود المحليين. أُصيب العديد من الصهاينة بالإحباط جرّاء هذه القيود المفروضة على الهجرة.

البحث عن ملاذ آمن خلال الهولوكوست، 1933-1945

في عام 1933، وصل الحزب النازي إلى سُدة الحكم في ألمانيا. حاول العديد من اليهود الفرار من السياسات والقوانين المنتشرة والمعادية للسامية التي يفرضها النظام الجديد والتي ترعاها الدولة. حيث كان يحدوهم الأمل في الهجرة إلى دول أوروبية أخرى، أو إلى وجهات مثل الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وفلسطين الانتدابية. ومع ذلك، فإن مغادرة ألمانيا لم تكن بالأمر السهل. يجب على الشخص اليهودي، الذي يرغب في الهجرة، التقدم بطلب للحصول على عدد هائل من الوثائق التي اتسمت بارتفاع تكلفتها وصعوبة تنظيمها. حتى عندما يتمكن الشخص من تأمين الوثائق، لم يكن هناك سوى عدد قليل للغاية من البلدان تسمح لليهود بدخول البلد.

وطوال عام 1930، عمدت بريطانيا بشكل مطّرد إلى الحد من هجرة اليهود إلى فلسطين الانتدابية. ومع ذلك، وصل حوالي 60000 يهودي من ألمانيا والأراضي التي ضمتها إلى فلسطين الانتدابية بين عامي 1933 و1939.

في مايو 1939، أصدرت بريطانيا وثيقة سياسات تعرف باسم "الكتاب الأبيض لعام 1939". حيث حدد الخطط البريطانية لفرض مزيد من القيود على الهجرة اليهودية إلى فلسطين الانتدابية. ولذا، فقد تسبّب التحوّل في السياسات المتبعة التي ابتعدت عن وعد بلفور إلى تخييب آمال الصهاينة وإثارة غضبهم. فقد كان التوقيت صارخًا للغاية. في 1938-1939، وسّعت ألمانيا النازية حدودها وامتدادها من خلال أعمال العدوان الإقليمي التي مارسوها ضد الدول المجاورة. أسفر هذا الأمر عن وضع المزيد من اليهود تحت سيطرة ألمانيا النازية. وأدى اندلاع الحرب العالمية الثانية في سبتمبر 1939 إلى تهديد السكان اليهود في أوروبا. بدأ النازيون يمارسون أعمالًا وحشيةً من العنف الجماعي ضد اليهود في جميع الأراضي التي احتلوها، وغالبًا ما ساعدهم الحلفاء والمتعاونون المحليون في ذلك. أما فيما يتعلق بالأشخاص الذين كان يحدوهم الأمل في الهروب من النازيين بالفرار إلى الخارج، فقد تسبّبت الحرب في أن يصبح السفر مستبعدًا، بل وتزداد خطورته. ولم تكن هناك أي دولة تقريبًا على استعداد لقبولهم.

طوال فترة الحرب، تصاعدت السياسات النازية المعادية لليهود إلى جرائم القتل الجماعي الممنهجة. قتل النازيون وحلفاؤهم والمتعاونون معهم ستة ملايين يهودي من الرجال والنساء والأطفال، في إبادة جماعية تُعرف الآن باسم الهولوكوست.

 فلسطين الانتدابية خلال الحرب العالمية الثانية، 1939-1945

خلال الحرب العالمية الثانية، اتسع نطاق الصراع بين الألمان والبريطانيين وحلفائهم ليصل إلى شمال إفريقيا. وفي عام 1942، أوقفت بريطانيا في نهاية الأمر التقدم الألماني عبر مصر في معركة العلمين. وبالتالي، ظلت فلسطين الانتدابية تحت سيطرة بريطانيا وظل اليهود الذين عاشوا هناك في مأمن من الإبادة الجماعية النازية.

جندية قوات المظلات اليهودية هنا سزينيز مع شقيقها، قبل خروجها في مهمة إنقاذ.

أراد العديد من اليهود في فلسطين الانتدابية المشاركة في القتال ضد ألمانيا النازية. وتطوّع الآلاف للخدمة في الجيش البريطاني وقاتل بعضهم في وحدات يهودية مشكّلة حديثّا. على سبيل المثال، كانت هانا سزينس إحدى الفتيات اليهوديات الشابات المجرية المولد. خدمت في الجيش ضمن المتطوعات في قوات المظلات، وأُرسلت خلف الخطوط الألمانية للمشاركة في جهود المقاومة وعمليات الإغاثة. ألقت السلطات القبض على سزينس أثناء محاولتها عبور الحدود إلى المجر التي تحتلها ألمانيا. وعذبوها لعدة أشهر، لكنها لم تخن زملاءها مطلقًا. وفي نهاية المطاف، أُدينت سزينيس بتهمة الخيانة ونُفّذ بها حكم الإعدام. تأسست مجموعة اللواء اليهودي التابعة للجيش البريطاني، التي قاتلت تحت علم نجمة داود، رسميًا في سبتمبر 1944. وضمت أكثر من 5000 متطوع يهودي من فلسطين الانتدابية. قاتلت مجموعة "اللواء اليهودي" ببسالة وشجاعة ضد الألمان في إيطاليا بدءًا من مارس عام 1945 حتى نهاية الحرب في أوروبا في مايو عام 1945.

كان لدى العديد من اليهود في فلسطين الانتدابية عائلات وأصدقاء محاصرون في أوروبا. حيث ساورهم القلق خلال ترقبهم لسماع الأخبار منهم. وقد أُصيبوا بالذعر والفزع عندما أصبحت المعلومات حول القتل الجماعي ليهود أوروبا معروفة لدى عامة الشعوب.

أزمة اللاجئين بعد الحرب (1945-1948)

عندما ألحق الحلفاء الهزيمة بألمانيا في ربيع عام 1945، واجهوا ملايين المدنيين الأوروبيين الذين يعيشون بعيدًا عن منازلهم قبل الحرب، بما في ذلك مئات الآلاف من الناجين من الهولوكوست. بالإضافة إلى قتل 6 ملايين يهودي أوروبي وغيرهم من الملايين الآخرين، نفّذت ألمانيا النازية أيضًا عمليات نقل قسري للسكان على نطاق غير مسبوق. ولذا، فقد أسفرت السياسات الألمانية في زمن الحرب عن أكبر أزمة لاجئين شهدها العالم على الإطلاق.

استسلمت ألمانيا في مايو عام 1945. وفي غضون أشهر، عمد الحلفاء إلى إعادة ملايين الأشخاص إلى بلدانهم الأصلية. ومع ذلك، رفض العديد من الناجين من الهولوكوست أو شعروا بالعجز وعدم القدرة على العودة إلى مدنهم قبل الحرب. إنهم لم يفقدوا عائلاتهم ومجتمعاتهم المحلية فحسب، بل سُلِبوا أيضًا ممتلكاتهم وسبل عيشهم. وعلاوة على ذلك، فإن العودة إلى الوطن تعني مواجهة معاداة السامية المستمرة والصدمة القوية التي أُصيبوا بها خلال الهولوكوست. وكثيرًا ما واجه اليهود الذين عادوا إلى بلدانهم الأصلية الأعمال العدائية والعنف. على سبيل المثال، قُتل 42 من الناجين من الهولوكوست في يوليو عام 1946 خلال أعمال شغب معادية للسامية في مدينة كيلسي البولندية.

شق العديد من الناجين من الهولوكوست طريقهم إلى أجزاء من أوروبا التي حررها الحلفاء الغربيون. وقد كان يحدوهم الأمل في العثور على أماكن جديدة يكون موطنًا وبدء الحياة من جديد. إلا أن تحقيق هذا الطموح كان لا يزال أمرًا صعبًا. ظلت القيود المفروضة على الهجرة سارية على الولايات المتحدة الأمريكية وفلسطين الانتدابية التي تسيطر عليها بريطانيا ووجهات أخرى.

وفي مناطق احتلال الحلفاء في أوروبا الغربية، جرى إيواء العديد من الناجين من الهولوكوست في مخيمات اللاجئين التي تُسمى مخيمات النازحين (DP). في أوجّ توسعها عام 1947، بلغ عدد الجاليات اليهودية المشردة حوالي 250000. ولم يكن المقصود من هذه المخيمات أبدًا أن تكون منازل دائمة، وقد كان معظم النازحين في أشد الحاجة إلى المغادرة.

 المباحثات الأمريكية والبريطانية بشأن اللاجئين اليهود

كان مصير النازحين اليهود نقطة نزاع بين الحكومتين الأمريكية والبريطانية. وفي صيف عام 1945، عمد السيد إيرل جي هاريسون، ممثل الولايات المتحدة الأمريكية لدى اللجنة الحكومية الدولية للاجئين، إلى زيارة لتحديد احتياجات اليهود وغيرهم من النازحين غير القادرين على العودة إلى الوطن. وفي التقرير الذي أسفر عن تلك المشاورات، قدم هاريسون انتقادات لاذعة لمعاملة الأشخاص النازحين. ووصف الاكتظاظ والظروف غير الصحية في مخيمات النازحين. وقدم أيضًا توصيات لتحسين ظروف النازحين من اليهود. وفي نهاية المطاف، حثّ هاريسون على اتخاذ إجراءات سريعة لإعادة توطين اللاجئين اليهود. وذكر بأن معظم النازحين اليهود يرغبون في الانتقال إلى فلسطين الانتدابية. وأشار إلى الالتماس المُقدم من الوكالة اليهودية في فلسطين. وقد طلب هذا الالتماس من بريطانيا إصدار 100000 شهادة هجرة إضافية لليهود.

أحال الرئيس الأمريكي هاري إس ترومان تقرير هاريسون إلى رئيس الوزراء البريطاني كليمنت أتلي. وقد حثّ ترومان بريطانيا على السماح لـ 100000 يهودي نازح بالهجرة إلى فلسطين الانتدابية. رفض أتلي رفضًا قاطعًا الاقتراح الذي قدمه ترومان وتوصيات هاريسون الواردة في التقرير. وحذر ترومان أيضًا من وقوع "أضرار جسيمة" للعلاقات الأمريكية البريطانية إذا دعت الحكومة الأمريكية بشكل علني إلى الهجرة اليهودية إلى فلسطين الانتدابية.

في محاولة لتخفيف حدة التوترات مع الولايات المتحدة الأمريكية، أنشئت بريطانيا "لجنة التحقيق الأنجلو أمريكية بشأن فلسطين". حققت اللجنة في الادعاءات الواردة في تقرير هاريسون. وأكد تقرير اللجنة في أبريل 1946 النتائج التي توصل إليها هاريسون. وأوصت بالسماح لـ 100000 يهودي بالهجرة إلى فلسطين. ورفضت بريطانيا هذه التوصيات.

اللاجئون يتجمعون حول سياج سفينة Aliyah Bet (الهجرة "غير الشرعية") التي تسمى "جوشيا ويدجوود،" التي كانت راسية في ميناء حيفا.

الناجون من الهولوكوست والصهيونية في مخيمات النازحين

في أعقاب تداعيات الهولوكوست، أراد العديد من الناجين مغادرة أوروبا. لقد وجدوا بواعث الأمل والمُضي قدمًا نحو المستقبل في الحركة الصهيونية. وبدءًا من عام 1945 وحتى عام 1948، اختار الناجون اليهود في كثير من الأحيان فلسطين الانتدابية التي تسيطر عليها بريطانيا كوجهة مفضلة لهم.

عمد ديفيد بن غوريون، زعيم الجالية اليهودية في فلسطين الانتدابية، إلى زيارة مخيمات النازحين في أوروبا عدة مرات في عامي 1945 و1946. ورفعت زياراته الروح المعنوية لدى النازحين وجعلتهم يحتشدون تأييدًا ودعمًا لإقامة دولة يهودية. وأصبح النازحون إحدى القوى المؤثرة في القضية الصهيونية. أصبحت الاحتجاجات الجماهيرية في مخيمات النازحين ضد السياسة البريطانية التي تفرض قيودًا على الهجرة إلى فلسطين الانتدابية أحداثًا شائعة.

إلا أن بريطانيا واصلت سياساتها التقييدية للهجرة. أدى هذا الأمر إلى تقوية عزيمة العديد من اليهود للوصول إلى فلسطين بأي وسيلة ممكنة. وبدءًا من عام 1945 إلى عام 1948، نقلت منظمة Briḥah ("الفرار" أو "الهرب" بالعبرية) أكثر من 100000 يهودي من أوروبا الشرقية إلى مناطق احتلال الحلفاء ومعسكرات النازحين. ومن هذا المنطلق، قادت مجموعة اللواء اليهودي شبكة من المجموعات التي تنظم السفن لإجلاء النازحين إلى فلسطين الانتدابية دون إذن بريطاني.

اعترضت بريطانيا معظم هذه السفن ورفضت دخولها. بين عامي 1945 و1948، أسرت بريطانيا أكثر من 50000 لاجئ يهودي في البحر. وأرسلوهم إلى معسكرات الاعتقال في جزيرة قبرص في البحر المتوسط. في إحدى الحالات الاستثنائية عام 1947، أوقفت بريطانيا سفينة، Exodus 1947، وهي في طريقها. حيث كان هناك 4500 ناجٍ من الهولوكوست على متن السفينة. رفضت بريطانيا دخول هؤلاء الناجين إلى فلسطين الانتدابية ونقلوهم قسرا إلى المنطقة التي تحتلها بريطانيا في ألمانيا. اجتذب هذا الحادث اهتمامًا إعلاميًا على الصعيد العالمي وأحرج الحكومة البريطانية. وأثار هذا الحادث التعاطف مع المحنة التي واجهها يهود أوروبا بعد الحرب. وساعدت أيضًا في التأثير على الرأي العام العالمي لصالح الاعتراف النهائي بدولة يهودية عام 1948.

 الناجون من الهولوكوست وقيام دولة إسرائيل

مع تصاعد أزمة اللاجئين، قدّمت الحكومة البريطانية المسألة إلى الأمم المتحدة (UN). وفي جلسة خاصة، صوّتت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 نوفمبر 1947، على تقسيم أراضي فلسطين الانتدابية إلى دولتين جديدتين، دولة يهودية والأخرى عربية. كانت هذه إحدى التوصيات التي وافق عليها الزعماء اليهود ورفضها العرب.

بدأت بريطانيا في سحب قواتها في أبريل عام 1948. ولذا، فقد استعد قادة الحركة الصهيونية لإقامة دولة يهودية حديثة بشكل رسمي. وفي 14 مايو 1948، أعلن ديفيد بن غوريون تأسيس دولة إسرائيل. صرّح قائلًا:

إن المحرقة، التي أحاقت بملايين اليهود في أوروبا، أثبتت مجددًا إلحاح إعادة إنشاء الدولة اليهودية، التي تحل مشكلة التشرد اليهودي عن طريق فتح الأبواب في وجه كل اليهود ورفع الشعب اليهودي إلى المساواة في أسرة الأمم.
—إعلان استقلال الدولة اليهودية كما نُشر باللغة الإنجليزية في صحيفة نيويورك تايمز في 15 مايو 1948 

اعترف الرئيس ترومان بدولة إسرائيل الجديدة في نفس اليوم. ورُفعت جميع القيود المفروضة على الهجرة اليهودية إلى إسرائيل. ولذا، بدأ الناجون من الهولوكوست بالوصول إلى دولة إسرائيل الجديدة على الفور. حيث قاتل العديد من الناجين وماتوا باعتبارهم جنودًا في حرب الاستقلال الإسرائيلية (1948-1949). وعلى الرغم من أنهم أقلية من سكان إسرائيل، إلا أن الناجين من الهولوكوست سيواصلون في تقديم مساهمات كبيرة للأمة. بالنسبة للناجين وعائلاتهم في جميع أنحاء العالم، تظل دولة إسرائيل مصدرًا هامًا للأمن والفخر.