مقدمة

يوزف منغلي, طبيب ألماني وقائد قوات الأمن الخاصة.

يُعد جوزيف منغيلي أحد أشهر الشخصيات في الهولوكوست بسبب أفعاله الشائنة، فقد جعلت منه خدمته في معسكر أوشفيتز وتجاربه الطبية التي أجراها هناك الجاني الأكثر شهرة للجرائم التي ارتكبت في ذلك المعسكر، وأصبحت حياته التي عاشها بعد الحرب متخفيًا مثالًا على فشل العالم في تقديم الجناة النازيين إلى العدالة.

بسبب أعماله المشينة، أصبح منغيلي مادة للعديد من الكتب والأفلام والمسلسلات التليفزيونية الشهيرة، حيث شوهت العديد من هذه الأعمال الحقائق الواقعية عن جرائم منغيلي ولم تأخذ في الاعتبار السياق التاريخي الذي ارتكب فيه تلك الجرائم، فصوره البعض على أنه عالم مجنون كان يجري تجارب سادية دون أساس علمي.

إنما حقيقة منغيلي كانت أسوء من ذلك بكثير، فقد كان طبيبًا وباحثًا طبيًا مدربًا على أعلى مستوى، كما كان أحد المحاربين القدامى الذين حصلوا على العديد من الأوسمة والنياشين. كان الكل يحترم منغيلي في مجاله وعمل لصالح إحدى المؤسسات البحثية الرائدة في ألمانيا، ودعمت أغلب أبحاثه الطبية التي أجراها في أوشفيتز أعمال علماء ألمان آخرين، وقد كان واحدًا من عشرات الباحثين في مجال الطب الحيوي الذين أجروا التجارب على السجناء في معسكرات الاعتقال النازية، كما كان واحدًا من المهنيين الطبيين الذين كانوا يختارون الضحايا ليُقتَلوا في غرف الغاز بأوشفيتز.

 كان منغيلي يتصرف وفقًا لأعراف العلم الألماني في ظل حكم النظام النازي، فقد مثلت جرائمه الخطر الجسيم للعلم عند إخضاعه لخدمة أيديولوجية تنكر حقوق جماعات معينة من الناس وكرامتهم وحتى إنسانيتهم.

منغيلي ما قبل أوشفيتز  

وُلِد منغيلي في 16 مارس 1911 في مدينة جونزبرغ البافارية بألمانيا، وكان الابن الأكبر لكارل منغيلي، أحد أصحاب مصانع المعدات الزراعية الناجحة.

 درس منغيلي الطب والأنثروبولوجيا (علم الإنسان) الفيزيائية في جامعات عدة، وفي عام 1935، حصل على درجة الدكتوراه في الأنثروبولوجيا الفيزيائية من جامعة ميونخ، وفي عام 1936، اجتاز الاختبارات الطبية الحكومية.  

في عام 1937، بدأ منغيلي العمل في معهد علم الأحياء الوراثي والصحة العنصرية في مدينة فرانكفورت بألمانيا، وعمل هناك مساعدًا لمدير المعهد، دكتور أوتمر فون فيرشوير، الذي كان عالمًا رائدًا في علم الوراثة وكان معروفًا بسبب أبحاثه التي أجراها على ظاهرة التوائم، وتحت إشرافه، أنهى منغيلي دراسة شهادة دكتوراه إضافية في عام 1938.

 تبني الأيديولوجية النازية

لم يؤيد منغيلي الحزب النازي بفعالية قبل أن يصل إلى السلطة، غير أنه في عام 1931، انضم إلى شتالهيلم، وهي قوات شبه عسكرية تتبع حزب الشعب الوطني الألماني، وهو حزب يميني آخر. أصبح منغيلي عضوًا في جيش الإنقاذ النازي، عندما استحوذ على شتالهيلم في عام 1933، ولكنه توقف عن مشاركته الفعالة به في عام 1934.

 مع ذلك، تبنى منغيلي خلال دراسته الجامعية العلوم العنصرية، وهي نظرية عنصرية بيولوجية خاطئة، فقد آمن بأن الألمان يختلفون بيولوجيًا عن الآخرين الذين ينتمون إلى جميع الأعراق المختلفة، بل ويتفوقوا عليهم، وكانت العلوم العنصرية أحد المبادئ الأساسية للأيديولوجية النازية، واستخدمها هتلر لتبرير التعقيم الإجباري للأشخاص الذين يعانون من أمراض جسدية وعقلية أو تشوهات جسدية معينة، كما استندت قوانين نورمبرغ العنصرية، التي حظرت الزواج بين الألمان واليهود أو السود أو أبناء قبائل الروما، على تلك العلوم العنصرية.

 في عام 1938، انضم منغيلي للحزب النازي وقوات الأمن الخاصة،  وسعى من خلال عمله في الأبحاث العلمية إلى دعم الهدف النازي الذي ينشد الحفاظ على التفوق المفترض "للسلالة" الألمانية وتعزيزها. كان فيرشوير، رئيس منغيلي ومرشده في العمل، يتبنى أيضًا مبدأ العنصرية البيولوجية، فبالإضافة إلى إجراء الأبحاث، كان فيرشوير وموظفوه—بما فيهم منغيلي—يمدون السلطات النازية المكلفة بتحديد أهلية الأشخاص ليكونوا من السلالة الألمانية بموجب قوانين نورمبرغ بآرائهم الفنية، كما كان منغيلي وزملاؤه يقيِّمون الألمان الذين تؤهلهم حالاتهم الجسدية والعقلية للخضوع للتعقيم الإجباري أو منعهم من الزواج بموجب القانون الألماني.

 الخدمة على الجبهة الشرقية

 في شهر يونيو من عام 1940، تجند منغيلي في الجيش الألماني (Wehrmacht)، ثم بعد ذلك بشهر واحد، تطوع ليؤدي الخدمة الطبية في وحدة Waffen-SS (الجناح العسكري لقوات الأمن الخاصة). في البداية، عمل منغيلي لحساب المكتب الرئيسي للسلالة الألمانية والمستوطنات (RuSHA) التابع لقوات الأمن الخاصة في بولندا التي كانت واقعة تحت الاحتلال الألماني، وهناك، كان منغيلي يقيَّم المعايير والطرق التي تستخدمها قوات الأمن الخاصة لتحديد ما إذا كان الأشخاص الذين يزعمون أنهم ينحدرون من أصل ألماني مناسبين عرقيًا وجسديًا للتأهل ليكونوا ألمان بالفعل.

 وبالقرب من نهاية عام 1940، كُلِّف منغيلي بالعمل في الكتيبة الهندسية في قوة "فيكينج" التابعة لقوات الأمن الخاصة بمنصب مسؤول طبي، ولمدة حوالي 18 شهرًا بدأت من شهر يونيو في عام 1941، شهد قتالًا شديد الوحشية على الجبهة الشرقية. بالإضافة إلى ذلك، وفي الأسابيع الأولى من الهجوم الألماني على الاتحاد السوفييتي، ارتكبت القوة التي التحق بها منغيلي مذبحة في حق آلاف المدنيين اليهود. حصل منغيلي، نتيجة لخدمته على الجبهة الشرقية، على وسام الصليب الحديدي، من المرتبة الأولى والثانية، وترقى ليصبح نقيبًا في قوات الأمن الخاصة (SS-Hauptsturmführer).

 عاد منغيلي إلى ألمانيا في شهر يناير من عام 1943،  وأثناء انتظاره التكليف التالي له مع الجناح العسكري لقوات الأمن الخاصة، بدأ بالعمل مرة أخرى مع مرشده فيرشوير، الذي كان قد أصبح مؤخرًا مديرًا لمعهد القيصر فيلهيلم لعلوم الإنسان، وعلم الوراثة البشرية، وعلم تحسين النسل (KWI-A) في برلين.

 التكليف بالعمل في معسكر أوشفيتز

في 30 مايو 1943، كلفت قوات الأمن الخاصة منغيلي بالعمل في معسكر أوشفيتز، وتوجد بعض الأدلة التي تفيد بأن منغيلي نفسه هو من طلب العمل هناك، حيث عمل بوصفه أحد أطباء المعسكر في أوشفيتز بيركيناو. كان أوشفيتز بيركيناو أكبر معسكر من معسكرات أوشفيتز، كما كان أحد مراكز قتل اليهود المرحلين من جميع أنحاء أوروبا، وكان منغيلي مسؤولًا عن معسكر الغجر ببيركيناو، بالإضافة لواجبات وظيفته الأخرى، فبداية من عام 1943، تم إرسال ما يقرب من 21.000 رجل وامرأة وطفل من قبائل الروما (الذين كانوا يشار لهم بازدراء "بالغجر") إلى أوشفيتز وسُجنوا في معسكر الغجر هناك، وعندما تمت تصفية هذا المعسكر لعائلات الغجر في الثاني من أغسطس من عام 1944، شارك منغيلي في اختيار 2.893 سجين من قبائل الروما ليُقتلوا في غرف الغاز ببيركيناو. ثم بعد ذلك بفترة قصيرة، تم تعيينه رئيسًا للأطباء للجزء من مجمع معسكر أوشفيتز المسمى أوشفيتز بيركيناو أو أوشفيتز الثاني. وفي نوفمبر من عام 1944، تم تكليفه بالعمل في مستشفى بيركيناو المخصصة لقوات الأمن الخاصة.

"ملك الموت": اختيار السجناء لإرسالهم للموت

كان أفراد الطاقم الطبي في المعسكر يقومون بما يسمى بعمليات الاختيار من ضمن واجبات وظائفهم في المعسكر، وكان الغرض من هذه العمليات هو تحديد الأشخاص غير القادرين على العمل، فكانت قوات الأمن الخاصة تعتبر مثل هؤلاء الأشخاص عديمي الفائدة، ولذلك كانوا يقتلونهم. عندما كانت تصل القطارات المحملة باليهود لبيركيناو، كان طاقم المعسكر الطبي يختار بعض البالغين ذوي البنيات القوية ليعملوا بالسخرة في معسكر الاعتقال، بينما كان الأشخاص الذين لا يقع عليهم الاختيار ليعملوا، بما فيهم الأطفال والبالغين الآخرين، يُقتلون في غرف الغاز.

كان الأطباء العاملون في معسكر أوشفيتز ومعسكرات الاعتقال الأخرى يقومون كذلك بعمليات الاختيار في مشافي المعسكرات وثكناتها، وذلك من أجل تحديد السجناء المصابين أو الذين أصبحوا مرضى أو ضعفاء للغاية لدرجة لا تؤهلهم للعمل. استخدمت قوات الأمن الخاصة طرقًا متنوعة لقتل هؤلاء السجناء، بما فيها الحقن بمواد قاتلة والخنق بالغاز، وكان منغيلي يقوم بعمليات الاختيار تلك على نحو روتيني في بيركيناو، مما جعل بعض السجناء يشيرون إليه بلقب "ملك الموت". استرجعت جيزيلا بيرل، طبيبة أمراض نساء يهودية وإحدى السجينات ببيركيناو بعد ذلك كيف كان ظهور منغيلي في مشفى النساء يملأ السجينات بالرعب:

كنا نخاف من هذه الزيارات أكثر من أي شيء آخر لأن [. . .] لم نكن نعرف أبدًا ما إذا كان سيُسمح لنا بالبقاء على قيد الحياة أم لا[. . . .]  فقد كان مسموح له بفعل ما يشاء معنا.

ـ نقلا عن مذكرات جيزيلا بيرل بالعنوان "كنت طبيبة في أوشفينز1

بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح منغيلي مشهورًا بأفعاله الشائنة في أوشفيتز بفضل روايات أطباء السجناء الذين كانوا يعملون تحت إدارته وكذلك السجناء الذين نجوا من تجاربه الطبية.

 كان منغيلي واحدًا من حوالي 50 طبيبًا خدموا في أوشفيتز، لكن لم يكن الطبيب الأعلى رتبة في مجمع معسكر أوشفيتز ولا زعيم الأطباء الآخرين هناك. إلا أنه يُعد أشهر الأطباء الذين خدموا في معسكر أوشفيتز إلى حد بعيد، وسبب ذلك هو وجود منغيلي المتكرر في المنحدر الذي كانت تُجرى فيه عمليات الاختيار، وحتى عندما كان لا يقوم بنفسه بعملية الاختيار، فإنه كان يظهر أيضًا في كثير من الأحيان في المنحدر ليبحث بين المساجين عن توائم لإجراء تجاربه عليهم أو أطباء ليعملوا في مشفى معسكر بيركيناو، وبالتالي، افترض السجناء الناجون الذين خضعوا لعمليات الاختيار عند وصولهم أوشفيتز أن منغيلي هو الطبيب الذي كان يقوم بهذه العمليات، ومع ذلك، فلم يؤد منغيلي هذه المهمة أكثر من زملائه الأطباء.

 الباحثون في مجال الطب الحيوي في أوشفيتز

 فوضت قوات الأمن الخاصة الباحثين الألمان في مجال الطب الحيوي بإجراء تجارب غير أخلاقية وفي كثير من الأحيان مميتة على البشر في معسكرات الاعتقال، ووفر معسكر أوشفيتز السجناء لمثل هذه التجارب التي كانت تُجرى في معسكرات أخرى مختلفة، كما كان بمثابة موقع للعديد من التجارب المتنوعة على البشر، بسبب عدد الذين كانوا يُرسلون للسجن هناك، فقد أرسلت قوات الأمن الخاصة 1.3 مليون رجل وامرأة وطفل من خلفيات قومية وعرقية مختلفة ومتعددة ليُسجنوا في أوشفيتز، بحيث كان يستطيع الباحثون الذين يبحثون عن بشر لهم صفات معينة من أجل تجاربهم العثور عليهم بسهولة في أوشفيتز أكثر من أي معسكر آخر.

كان منغيلي واحدًا من بين أكثر من دستة من العاملين في المجال الطبي التابعين لقوات الأمن الخاصة الذين أجروا التجارب على البشر المعتقلين في أوشفتز، وكان من بين هؤلاء الأطباء العاملين هناك:

  • إدوارد ويرث، رئيس الأطباء في معسكر أوشفيتز
  • كارل كلوبيرغ، أحد الأخصائيين المعروفين في علاج العقم
  • هورست شومان، الطبيب الذي قتل آلاف من المرضى المعاقين خنقًا بالغاز أثناء تنفيذ برنامج القتل الرحيم النازي
  • هيلموت فيتر، طبيب قوات الأمن الخاصة الذي أجرى تجارب الأدوية لصالح شركة باير المتفرعة من شركة أي جي فاربين على السجناء في معسكرات داخاو وأوشفيتز وجوسين للاعتقال
  • يوهان بول كريمر، أستاذ التشريح

كل هؤلاء الأطباء رأوا تعيينهم بمعسكر أوشفيتز على أنها فرصة ذهبية للمضي قُدُمًا في أبحاثهم.

أنواع التجارب المنفذة

تسببت التجارب التي أُجريت في معسكرات الاعتقال بقتل العديد من الضحايا أو أصابتهم بعاهات مستديمة على الأقل، وفي بعض التجارب كان الموت هو النتيجة المنشودة لضحاياها، كما لم يسعَ الأطباء الذين كانوا يجرون مثل هذه التجارب في أوشفيتز للحصول على موافقة السجناء أو يُخبرونهم بمعلومات عن العلاجات التي كانوا يجربونها عليهم أو آثارها المحتملة. تضمنت أنواع التجارب المنفذة في معسكر أوشفيتز:

  • طرق اختبار التعقيم الجماعي
  • إصابة السجناء بالجروح أو الأمراض لدراسة آثارها واختبار علاجاتها
  • إجراء عمليات جراحية وإجراءات علاجية غير ضرورية على المرضى بغرض إجراء الأبحاث أو تدريب الأطباء
  • قتل السجناء وتشريحهم لإجراء الأبحاث الأنثروبولوجية والأبحاث الطبية

تجارب منغيلي في معسكر أوشفيتز

من اليسار إلى اليمين: الدكتور يوزف منغلي ورودلف هوس ويوزف كرامر وضابط غير معين الهوية.

كان منغيلي يجري الأبحاث والتجارب، إلى جانب واجبات وظيفته العادية في معسكر أوشفيتز، وربما يكون مرشده فيرشوير هو من رتب تكليفه بالعمل في أوشفيتز بغرض دعم إجراء الأبحاث لصالح معهد القيصر فيلهيلم لعلوم الإنسان، وعلم الوراثة البشرية، وعلم تحسين النسل (KWI-A). وخلال فترة عمل منغيلي بمعسكر أوشفيتز، كان يرسل لزملائه في ألمانيا عينات الدم وأجزاء من أجسام بشرية وأعضاء بشرية وجماجم وأجنة، وكلها مأخوذة من السجناء بمعسكر أوشفيتز. اشترك منغيلي في مشاريع أبحاث زملائه بإجرائه الدراسات والتجارب على السجناء من أجلهم.

 وبالإضافة إلى عمله مع معهد القيصر فيلهيلم، كان منغيلي يجري تجاربه الخاصة على السجناء أيضًا، وكان يأمل أن تُنشر النتائج التي يصل إليها ويحصل من خلالها على الاعتمادات التي تؤهله ليكون أستاذًا بالجامعة.

 نظم منغيلي، أثناء فترة خدمته بمعسكر أوشفيتز، مجمعًا للأبحاث كان يقع في مجموعة من الثكنات، واختار موظفيه من بين السجناء الذين كانوا يمتهنون الطب، واستطاع منغيلي الحصول على أدوات ومعدات حديثة ليستخدمها في أبحاثه، حتى أنه أقام معملًا لدراسة علم الأمراض.

 أهداف الأبحاث

كانت ترتكز أبحاث منغيلي التي أجراها لحسابه والأبحاث التي أجراها لمعهد القيصر فيلهلم في العموم على كيفية تطور الجينات لتصبح سماتٍ جسدية وعقلية، ويُعد هذا المجال أحد المجالات المشروعة والهامة في مجال الأبحاث الجينية، إذا أُجريت على نحو أخلاقي، ولكن كانت الأبحاث التي أجراها منغيلي وفيرشوير وزملائهما مشوبة بإيمانهم بنظرية علمية زائفة عن السلالات، وهي ما كانت مبدأً أساسيًا في الأيديوليوجية النازية. كانت هذه النظرية تؤكد أن السلالات البشرية تختلف عن بعضها بعضًا من حيث الجينات، فقد أسست سلسلة هرمية للسلالات وشددت على أن السلالات "الأدنى" هي الأكثر احتمالًا لأن تظهر بها سماتٌ سلبية عن أعضاء السلالات "العليا"، وكان كما يزعم أن تشمل هذه السمات الوراثية السلبية ما هو أكثر من الأمراض وأوجه القصور الجسدية والعقلية فأنها تضم كذلك, كما يزعم   السلوكيات غير المقبولة اجتماعيًا أو غير الأخلاقية، مثل التشرد والبغاء والإجرام، ووفقًا لهذه النظرية الخاطئة عن السلالات، فإن الزواج بينها يمرر هذه السمات السيئة للسلالات "العليا" ويضعفها.

 سعى منغيلي لتحديد العلامات الجسدية والكيميائية الحيوية المعينة التي يمكنها أن تُحدد على نحو قاطع أعضاء سلالات معينة، واعتقد منغيلي وزملاؤه بأن إيجاد مثل هذه العلامات أمر بالغ الأهمية للحفاظ على الفوقية المفترضة لسلالة الشعب الألماني، فبالنسبة لمنغيلي وزملائه، بررت أهمية هذه الأبحاث إجراء التجارب المؤذية والمميتة على البشر—وفي هذه الحالة، السجناء في معسكر أوشفيتز—الذين كان يُفترض أنهم من سلالات أدنى.

من هم ضحايا منغيلي؟

اختار منغيلي ضحاياه بشكل رئيسي من جماعتين عرقيتين: قبائل الروما واليهود، فقد كان يهتم بدراستهما الباحثون في مجال الطب الحيوي اهتمامًا خاصًا في ألمانيا النازية. اعتبرت الأيديولوجية النازية أن كل من قبائل الروما واليهود "دون البشر" وأنهما يشكلان تهديدًا على "السلالة" الألمانية، ولهذا السبب، لم يفكر العلماء النازيون في تطبيق أخلاقيات مهنة الطب على أعضاء هاتين الجماعتين.

 خلال الفترة التي خدمها منغيلي في أوشفيتز بيركيناو، أعتُقِل أكثر من 20.000 من قبائل الروما كما وصل مئات الآلاف من اليهود في القطارات. لم يكن يستطيع العلماء في أي مكان آخر في العالم الوصول إلى هذا العدد من أعضاء هاتين الجماعتين معتقلين في مكان واحد، كما لم يكن لديهم القدرة على إجراء التجارب على البشر بأي طريقة أرادوها في أي مكان آخر، لذا، فقد علق منغيلي أمام أحد زملائه قائلًا أن عدم استغلال هذه الفرص لإجراء التجارب على البشر في أوشفيتز بيركيناو يعد جريمة.

قبائل الروما

أجرى منغيلي دراسة أنثروبولوجية على رجال قبائل الروما ونسائها وأطفالها الذين كانوا معتقلين في معسكر الغجر، بالإضافة إلى إجراء التجارب الطبية عليهم، وعندما حدث تفشيًا لمرض النوما أو قرحة الفم، وهي نوع من أنواع الغرغرينا التي تصيب الفم، بين أطفال الروما في المعسكر، كلف الأطباء من السجناء بدراستها. إن مرض النوما هو عدوى بكتيرية تصيب في المقام الأول الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية الشديد، إلا أن منغيلي كان يؤمن أن أطفال الروما الذين كانوا في أوشفيتز يعانون من مرض النوما لأسباب وراثية متعلقة بسلالتهم وليس بسبب الظروف التي كانوا يعيشون فيها في المعسكر. اكتشف أطباء المساجين كيف يعالجون مرض النوما، الذي كان قاتلًا بطبيعته، وبالرغم من ذلك، فجميع الأطفال الذين عولجوا من مرض النوما قُتلوا في نهاية المطاف في غرف الغاز.

التوائم

كانت ظاهرة التوائم إحدى الظواهر التي ركزت عليها الأبحاث الوراثية في ثلاثينيات القرن الماضي، فقبل الحرب العالمية الثانية، استخدم فيرشوير وباحثون آخرون في مجال الطب الحيوي التوائم لدراسة الأساس الوراثي للأمراض، وكان قد حصل هؤلاء الباحثون الأوائل على موافقة التوائم المشاركين في هذه الأبحاث أو على موافقة آبائهم، ولكن كان من الصعب على هؤلاء الباحثين أن يُدرجوا عدد كبير من التوائم في هذه الدراسات، لذا، فقد كان منغيلي يجمع مئات التوائم من بين اليهود الذين كانوا يصلون إلى  معسكر أوشفيتز في القطارات، وكذلك من سجناء قبائل الروما، ولم يستطع أي باحث أن يدرس مثل هذا العديد الكبير من التوائم أو أن يجري التجارب عليهم من قبل.

 أمر منغيلي موظفيه بقياس أجسام التوائم من جميع الجوانب وتسجيل هذه القياسات، كما سحب كميات كبيرة من الدم من أجسامهم، وكان يجري لهم عمليات مؤلمة في بعض الأحيان.

 [...] كانوا يعطوننا الحقن في جميع أنحاء أجسادنا كذلك، ونتيجة لهذه الحقن، سقطت أختي ضحية للمرض، وتورم عنقها نتيجة لعدوى خطيرة، ثم أرسلوها إلى المستشفى وأجروا لها عملية جراحية بدون مخدر وفي ظروف بدائية. (…)

من رواية لورينك أندرياس ميناش، الذي كان سجينة في مخيم "أ" 12090..2

كان منغيلي كذلك يقتل مجموعات من التوائم من أجل تشريح جثثهم، وبعد أن يدرس عمليات التشريح تلك، كان يُرسل بعض من أعضائهم إلى معهد القيصر فيلهيلم.

ذوو العيوب الخلقية

كان منغيلي يبحث عن ذوي العيوب الجسدية ليختارهم من بين اليهود الذين كانوا يصلون إلى المنحدر بمعسكر أوشفيتز بيركيناو، وكان يستهدف الأقزام والمصابين بالعملقة والمصابين باعوجاج القدم، فكان يدرسهم ثم يأمر بقتلهم، ثم يرسل أجسادهم إلى ألمانيا ليدرسها الباحثون الآخرون.

سعى منغيلي كذلك للبحث عن المساجين من قبائل الروما واليهود المصابين بتغاير لون العينين، وهي الحالة التي تكون فيها عينا الشخص ذاتا لونين مختلفين عن بعضهما، لأن أحد زملائه في معهد القيصر فيلهيلم كان مهتم بهذه الحالة بالتحديد، لذا كان منغيلي يأمر بقتل هؤلاء السجناء في أوشفيتز ويرسل عيونهم لزميله ذاك.

 الأطفال

كان معظم ضحايا تجارب منغيلي الطبية من الأطفال، وكان الأطفال الذين يختارهم منغيلي لتجاربه يعيشون في ثكنات منفصلة عن السجناء الآخرين ويتلقون طعامًا ومعاملة أفضل من غيرهم إلى حد ما، وكان منغيلي يعامل الأطفال بود. يحكي موشيه عوفر، أحد الناجين من تجارب منغيلي، في عام 1985 قائلًا

[منغيلي] كان يزورنا كالعم الطيب، ويحضر لنا الشوكولا، وقبل أن يستخدم المشرط أو السرنجة، كان يقول: 'لا تخشى شيئًا، فلن يحدث شيء لك...' ...لقد حقن موادًا كيماوية وأجرى جراحة في عمود تيبي الفقري. كان يعطينا الهدايا بعد أن ينتهي من إجراء تجاربه... خلال تجاربه الأخيرة، كان يُدخل الدبابيس في رؤوسنا، وما تزال ندوب تلك الثقوب ظاهرة حتى الآن. في أحد الأيام أخذ تيبي بعيدًا، واختفى أخي بضعة أيام، وعندما أعاده، كانت كل رأسه ملفوفة بالضمادات، ولفظ أنفاسه الأخيرة بين ذراعيّ.3

استخدم منغيلي الأطفال لإجراء التجارب لصالحه وكذلك لدعم الأعمال في معهد القيصر فيلهيلم، وشارك في دراسة لتطور لون العينين عن طريق وضع مادة أعطاه إياها أحد زملائه في أعين الأطفال وحديثي الولادة، وكانت تتراوح النتائج من الاحمرار والانتفاخ إلى العمى وقد تصل إلى الموت.

وصف أحد السجناء الذي كُلِّف برعاية التوائم من اليهود الذين اختارهم منغيلي لتجاربه بعد ذلك كيف كان الأطفال يتفاعلون عاطفيًا وجسديًا مع العلاجات المطبقة عليهم:

كانت تُجمع عينات الدم أولًا من أصابع الأطفال ثم من شرايينهم، مرتين أو ثلاث مرات من نفس الضحايا في بعض الحالات، وكان الأطفال يصرخون ويحاولون إخفاء أنفسهم ليتجنبوا أن يلمسهم أحد، وكان يلجأ أفراد الطاقم الطبي لاستخدام القوة معهم. (…) كانت توضع قطرات في أعينهم... كان بعض الأزواج من الأطفال يتلقون القطرات في كلتا عينيهم، بينما يتلقاها آخرون في عين واحدة فقط. كانت نتائج هذه الممارسات تُسبب الألم للضحايا فقد كانوا يعانون من انتفاخ شديد في جفونهم، واحساس بالحرقان في عيونهم...4

التهرب من العدالة

في شهر يناير من عام 1945، وبينما كان يتقدم الجيش السوفيتي الأحمر عبر بولندا الغربية، هرب منغيلي من معسكر أوشفيتز مع باقي العاملين التابعين للقوات الإنقاذ الخاصة، وقضى الأشهر القليلة التالية وهو يخدم في معسكر جروس-روزين للاعتقال والمعسكرات التابعة له، وفي الأيام الأخيرة من الحرب، ارتدى زي الجيش الألماني وانضم لإحدى الوحدات العسكرية، وبعد انتهاء الحرب، استسلمت الوحدة لقوات الولايات المتحدة العسكرية.

 أصبح منغيلي، الذي كان يتظاهر بأنه أحد ضباط الجيش الألماني، أسير حرب لدى الولايات المتحدة، وأطلقت الولايات المتحدة صراحه في أوائل شهر أغسطس من عام 1945، دون أن تدرك أن اسم منغيلي كان بالفعل في قائمة مجرمي الحرب المطلوبين للعدالة.

 بدايةً من أواخر عام 1945 وحتى ربيع عام 1949، عمل منغيلي مزارعًا تحت اسم مستعار بالقرب من روزنهايم ببافاريا، ومن هنا استطاع أن يتواصل مع عائلته، وعندما علم محققي جرائم الحرب بالولايات المتحدة بجرائم منغيلي في معسكر أوشفيتز، حاولوا إيجاده واعتقاله، ولكن، بناءً على الأكاذيب التي أخبرتهم بها عائلة منغيلي، استنتج المحققون أن منغيلي قد مات، وأدرك منغيلي أنه لن يكون آمنًا في ألمانيا بسبب الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة لإلقاء القبض عليه، وبدعم مالي من أهله، استطاع الهجرة للأرجنتين تحت اسم مستعار آخر في شهر يوليو من عام 1949.  

بحلول عام 1956، استطاع منغيلي الاستقرار في الأرجنتين وشعر بأنه أصبح آمنًا تمامًا هناك لدرجة أنه حصل على الجنسية الأرجنتينية باسم خوسيه منغيلي، إلا أنه في عام 1959، نمى إلى علمه أن فريق الادعاء في ألمانيا الغربية يعلمون أنه في الأرجنتين وانهم يسعون للقبض عليه، لذا، هاجر منغيلي إلى الباراغواي وحصل على الجنسية هناك. في شهر مايو من عام 1960، اعتقل عملاء الاستخبارات أدولف إيشمان في الأرجنتين وأخذوه إلى إسرائيل لمحاكمته، فهرب منغيلي من الباراغواي لأنه خمن أن إسرائيل تبحث عنه أيضًا، وكان تخمينه صحيحًا، وبدعم من عائلته في ألمانيا، قضى منغيلي بقية حياته باسم مستعار بالقرب من ساو باولو بالبرازيل، وفي 7 فبراير 1979، أصيب منغيلي بجلطة وغرق بينما كان يسبح في أحد المنتجعات لقضاء العطلات بالقرب من بيرتيوغا بالبرازيل، ثم دُفن في إحدى ضواحي ساو باولو باسم مستعار وهو "فولفغانغ جيرهارد".

 اكتشاف جسد منغيلي والتعرف عليه

في شهر مايو من عام 1985، اتفقت حكومات ألمانيا وإسرائيل والولايات المتحدة على التعاون في تعقب منغيلي وتقديمه للعدالة، فاقتحمت الشرطة الألمانية منزل أحد أصدقاء عائلة منغيلي في جونزبرغ بألمانيا، ووجدوا أدلة على أن منغيلي قد تُوُفِّيَ ودُفن بالقرب من ساو باولو. حددت الشرطة البرازيلية مكان قبر منغيلي واستخرجت جثته في شهر يونيو من عام 1985، وحدد خبراء الطب الشرعي الأمريكان والبرازيليون والأمان البقايا على أنها تخص جوزيف منغيلي بالفعل، وفي عام 1992، أكدت اختبارات الحمض النووي هذه النتيجة.

 تملص منغيلي من الاعتقال لمدة 34 عامًا ولم يُقدم للعدالة أبدًا.